مدهشة؛ مدهشة حقًّا

(قصة قصيرة)



استيقظَت من النوم على صوت منبه هاتفها المحمول، ضغطت على زر الغفوة مرتين حتى اختفى ووجب عليها النهوض. فتحت عينيها فوجدت فوقها تلك الغيمة الرمادية التي تلاحقها منذ مدّة ولم تخبر بها أحدًا، تجاهلتها ودخلت دورة المياه لتستعد للخروج، فرّشت أسنانها بملل ولم تنظر لانعكاسها في المرآة، وعندما انتهت أخرجت ملابسها من الخزانة الكبيرة في الغرفة، كل الملابس رمادية أو سوداء أو بيضاء، ارتدت أي قميص وبنطال واسعين، لن تحتمل أن ترى تلاطم أفخاذها بالملابس في هذا الصباح الباكر، ثم لبست عباءتها الواسعة السوداء وخرجت.

وصلت للعمل ودخلت مكتبها في هدوء، نظرت للأعلى فوجدت تلك الغيمة مازالت تحوم فوقها، بدأت الشغل الروتيني، تعمل وعقلها يتساءل عن حالها، عمّ آلت إليه حياتها، يرجوها الرحيل عن هذا المكان الذي لم ولن تجد نفسها فيه، قد صبرت هنا بما فيه الكفاية. كلما اقترب منها عميلًا رسمت ابتسامة مزيفة وتحدّثت كالروبوت، هي لا تؤمن بأيّ ممّا تقول، هي لا تتطلع فعلًا لمساعدتهم، هي لا ترى أنّهم حقيقةً على صواب.. حينما كان حلمها مساعدة الناس وفعل الخير، لم تكن تقصد العمل في الاستقبال؛ ليس في هذا خير يُذكر.. أو هذا ما تقوله لها والدتها عادةً.

 تقدّم من مكتبها زميلها الذي بنفس عمرها، طويل ووسيم وذو ابتسامة ساحرة، سألها سؤالًا غبيًّا وبديهيًّا، فأجابته باحترافية وعينيها بالكاد تراه؛ لم تُؤلم قلبها بالنظر إليه؟ هي لم تُلفت نظر رجل من قبل، وذلك الفتى الذي يتحدّث عنه المجتمع منذ أن كانت في الخامسة من عمرها، ذلك الرجل الذي سيعوّضها عن كل شيء، الذي فكّرت فيه وفي ملامحه وتركيب جسده وتفاصيل شخصيته، لن ينظر يومًا إليها، فهي ممتلئة ولا تهتم بنفسها كما قالت والدتها. ذهب الرجل بخيبة أمل، هو لا يعلم إن كانت معجبة به كما هو معجب بها، لا يعرف كيف يصارحها بأنه يريد الزواج منها.. يبدو أنها غير مهتمة. ذهب الرجل فرفعت عينيها ونظرت إليه بخيبة أمل، هي تعلم أنه ليس معجب بها كما هي معجبة به، ولم سيُعجب؟ اقتربت الغيمة منها أكثر، بدت تبث رذاذها؛ لا تدري لم مازالت تلك الغيمة فوقها ولم تستمع في اغراقها بالمطر في أكثر اللحظات غرابة.

عادت للمنزل بعد يوم طويل، ما أن اقتربت من الباب ترددت في الدخول؛ قد ابتلعت كمًّا هائلًا من السلبية منذ استيقظت. أخذت نفسًا عميقًا ثمّ دخلت، بدّلت ملابسها ثم رسمت ابتسامة صفراء على وجهها، واقتربت من والدتها فقبّلت يدها ورأسها؛ قبلات من طرف واحد. جلست على الكنبة المقابلة، فنظرت إليها والدتها في صمت.. إلى تلك الشعيرات الصغيرة فوق رأسها التي لم تصففها جيدًا، إلى ذلك الثوب الواسع الذي يسع شخصين، إلى يديها وأذنيها الخاليتين من المجوهرات، تأففت وأزاحت عينها عنها. سألتها بازدراء عن يومها، وقبل أن تجيب حشت تلك الأسئلة ببعض من الانتقاد للمظهر، ثم التأنيب للأفعال والإهمال، ثم تلك الأمنيات المفقودة لابنة من صنع الخيال.

سكتت والدتها وهي تفكّر فيما قالته لها صديقتها "إن لم تعتني ابنتك بنفسها لن يتقدم لها أيّ عريس!"، كم تحمل همّها، وكم يُخيّل لها أنها ستكون تعيسة إن لم تنقذها؛ يجب أن تؤنبها حتى تستيقظ. ثم نظرت والدتها للأعلى فوجدت غيمتها الرمادية صارت كبيرة جدا حتى أنها تحوم فوقها وفوق ابنتها.

لم تخبر والدتها بشيء، استمعت لها بذات الابتسامة، وما ان انتهت من تقضية الواجب الأسري دخلت غرفتها، فنظرت للمرآة أخيرًا، وتشرّبت كل ذلك الحديث، دنت منها الغيمة أكثر، بلبلتها أكثر. أخرجت الرواية التي بدأت قراءتها منذ أيام، تلك التي تتحدث عن قصة حب مألوفة، سرحت في أمير أحلامها.. تذكرّت زميلها الوسيم ذو الشخصية الجميلة المحترمة والأسئلة الغبية، ابتسمت وتساءلت "هل ممكن أن يكون معجبًا؟"، ثم تذكّرت تلك الفتاة التي في المرآة، فأنزلت من توقعاتها لذلك الرجل.. كيف تجرؤ على تمني رجل بجسد ممشوق وكرشتها تتوسطها، كيف تريده جميلا جذابا وهي فتاة لا يميزها شيء، كيف تريده لطيفا حنونا وهي بالكاد تستطيع الجلوس مع والدتها، بدأت تُقنع نفسها.. لا بأس في بعض الشحوم، ربما ليس عليه أن يكون وسيما، ربما لا ينبغي أن يكون لطيفا وذكيا.. احداهما يكفي.

قلّبت هاتفها لساعات متنقلة من موقع تواصل اجتماعي لآخر، فأخويها مشغولان بحيواتهما الخاصة، وكذلك صديقاتها، فمن سترى أو من ستُحَدِّث؟ استيقظت تلك النسوية بداخلها صارخة "لست بحاجة لرجل!، لست بحاجة لحنان أب أو صداقة أخ أو رفق حبيب، لست بحاجة لرجل." ثم هدأت وتفكرت.. صحيح، لست بحاجة لرجل، لكنني بحاجة لشخص أسنده ويستند علي.

بعد بعض من الوقت أتتها رسالة من صديقتها المقربة "نلتقي؟"، وافقت في الحال، وقفت ونظرت لنفسها في المرآة.. هل يستدعي أن تبدل ثيابها أو تسرح شعرها؟ ثم نظرت للغيمة فوقها.. لا يستدعي.

ذهبت لمنزل صديقتها، حضنتها بقوة فور لقائهما فهمست صديقتها "حضنك كحضن الأم!"، ابتسمت لها ودخلت؛ لم تُصدقها. خلعت حجابها وعباءتها بينما تنظر إليها صديقتها؛ إلى شعرها الأسود المموج الطويل الذي ينسدل خلف ظهرها كذيل حصان أصيل، إلى ثوبها الملوّن المطرز المتناسق تمامًا مع لون بشرتها، إلى يديها الناعمة الجميلة الصغيرة الخالية من أي زينة تخبئها، وإلى ذلك الحلق الصغير الذي كان كنجمة صغيرة تتوسط أذنيها.

جلستا سويًّا وبدأت صديقتها بالفضفضة وطرح المشكلات، وكلما قذفت مشكلة في وجهها حلّتها لها، وكلما عبّرت عن ألم في صدرها أزاحته عنها. ابتسمت صديقتها أخيرًا وقالت "كم أنا محظوظة بك.. صديقة جميلة وذكية ومبدعة تعرف كيف تجعلني سعيدة!" ضحكت في استحياء وهمست متصنّعة التواضع "لا لست كذلك."

تأملتها صديقتها لثوانٍ ثم نظرت فوقها، توتّرت فسألتها "لم تنظرين للأعلى؟"، فأعادت صديقتها الجملة بوجه أكثر جدية "أنت جميلة وذكية ومبدعة." أجابتها "حسنًا." لم تعلّق صديقتها وانتظرت، حتى اعترفت لها أخيرًا " أنا لا أعتقد أنّني جميلة أو ذكية أو مبدعة، ممتنّة لك لكنّني لا أصدّق ذلك."

ابتسمت صديقتها ولم تعلّق، اعتلت صديقتها المقعد وثنت رجليها تحتها، التفتت لها وأمسكت بيدها، ثم طلبت منها أن تغمض عينيها، فأغمضتها. وجدتها ترفع يديها، فشعرت بكفيها يلتصقا برأس صديقتها، وإبهاميها يلامسا أطراف عينيها، ثم همست صديقتها "انظري لنفسك الآن.." فتحت عينها فوجدت نفسها تنظر لنفسها، ولكنّها لا تنظر من خلال مرآة بل من خلال عينيّ صديقتها كنوع من أنواع السحر؛ تلك الغيمة التي كانت تحوم فوقها قد اختفت، وتلك الملامح على وجهها أصبحت أجمل، وذلك الوزن الذي كانت تراه زائدًا كان متناسقًا ومناسبًا جدًّا، وذلك الشعر الخفيف المتناثر كان جميلا مموج، وذلك العقل الذي لم ترى فيه منفعة لها أو للآخرين كان مليئا بالخير والذكاء والألوان؛ تلك الألوان التي لم ترها منذ مدة طويلة كانت بها وحولها كقوس قزح خاص بها وحدها.. ضحكت بسعادة وهي لا تصدق ما تراه، قالت صديقتها "أليست صديقتي مدهشة؟"، فأجابتها "مدهشة؛ مدهشة حقًّا!"

تعليقات

  1. قصة جميلة هادفة تعطي الأمل في الحياة وتوحي بمعنى الصداقة الحقيقية

    ردحذف

إرسال تعليق