صديقتي المُلوّنة

 (قصة قصيرة)



        أتذكّر أول مرة لاحظت ذلك البريق الذي ينبض في يدي، ذلك الشعاع الصادر منها وكأن بشرتي مضيئة، أزعجني لونه. لم أحب اللون الأزرق يومًا. لِم لَم يكن اللون الساطع مني أحمرًا؟ أحب اللون الأحمر أكثر. ولكن لا بأس. ركضت باتجاه أمي لأخبرها، فوجدت بريقًا آخرًا بها، أحمرًا كما تمنيت. أمي رائعة دون أن تدري حتى. أبي كان أصفر اللون، وإخوتي الخمسة ألوانهم اختلف أيضًا. لم أدري لم أصبحت أرى بريقًا ملوّنا يخرج منّا، لكن ذلك البريق لم يكن في عائلتي فقط، بل كان في جميع الأشخاص.

أنا انطوائية كما تقول عني أمي، "ابنتي لا تحب الخروج، ابنتي لا تحب الحديث"، لكنني لم أكن كذلك مع الجميع، فقط مع أولئك ذوي اللون الرمادي؛ الغامضين الصامتين المرعبين. نظراتهم حادّة، ووجوههم عابسة. أحبّ ذوي الألوان البرّاقة أكثر، الزاهية المشرقة بالحياة. إلا أنني في الصف الأول الثانويّ، صادفت فتاة ذات بريق لم أره من قبل في أي شخص آخر!

تلك الفتاة لم يخرج منها لونًا واحدًا، بل ألوانٌ كثيرة! أصفر وأحمر وأخضر وأزرق! تمشي وشعرها يتراقص بلفافاته المثاليّة، وعينيها تبتسم قبل شفتيها، وزيّنا المدرسي يبدو مختلفًا عليها. نظرت لانعكاس صورتي في زجاج النافذة، للألوان الباهتة فيّ وفي الزيّ، فإذا بها تقف خلفي وتهمس بأذني "زيّك واسع بعض الشيء، أعطني إياه قبل العطلة الأسبوعية وسأجعله مناسبًا لك"، فالتفت مسرعة إليها وإذا بوجهها مبتسمًا بلطف وهي تجلس في الكرسي بجانبي.

لم أرى يومًا شخصًا مهووسًا بشيء مثلها، عندما ننظر للناس أنا أرى ألوانهم الساطعة، وهي ترى أزياؤهم، كلانا لا يرى أشخاص. تنشغل هي بلباس هذه، وتطابق الألوان ببشرتهم، والقَصّة الأنسب لتقاسيم أجسامهم. بينما أنظر إليهم لأقارن ألوانهم الباهتة والزاهية، تدرجاتها المختلفة، واختلاف صديقتي عنهم الذي مازلت لا أفهم أسبابه. حتى أتتنا معلّمة جديدة لتدرّسنا التاريخ. لم أحبّ يومًا حصة التاريخ، لم أهتم بالقصص التي يجب عليّ حفظها، والحروب والتواريخ، مملة جدًّا. لكن تلك المعلّمة تفاءلت بها كثيرًا، فهي كصديقتي، زاهية متعددة الألوان!

منذ دخولها الفصل أغلقت مفاتيح الأنوار بشكل دراميّ، ولم تستخدم جهاز العرض بالطريقة الصحيحة، بل سلّطت ضوءه عليها وأخذتنا بنبرة صوتها القصصية لعالم آخر لم نزره من قبل. بدأت تحكي الحكايات فنسينا أننا في المدرسة، وأن تلك القصة من ضمن المنهج، وشعرنا بأننا نشاهد فيلمًا سينمائيًّا من روعته سنحكي لكل الأشخاص عنه!

أخذ نظري يتردد ما بين صديقتي والمعلّمة، متسائلا في اختلافهما، لم كل الأشياء تبدو أجمل مع الأشخاص ذوي الألوان المتعددة؟ ماذا يعني ذلك البريق الملوّن، النابض بالحياة، الساطع منهما؟ كلاهما مليء بالطاقة والحماس، كلاهما مليء بالحب. لم تكن المعلّمة لطيفة بقدر صديقتي، لم تكن شخصياتهما متطابقة، لم أجد بينهما عناصر متشابهة بكثرة، إلّا أن الألوان تلك تجعلهما محلّ اهتمامي.

انتهينا من مرحلة الثانوية، وحان أوان الجامعة، فانطلقت مع صديقتي لأحد الجامعات، أنا لم أدرِ ما أريد، وهي أرادت تلبية رغبة والديها البعيدة عن رغبتها الحقيقية. لذا لم أنوي التسجيل في أي شيء بعد رغبةً في معرفة مختلف الخيارات، ولكن كان بصديقتي أمر غريب لم أره من قبل.. بدأت ألوانها تتلاشى وكأنها تشتهي الاستقرار على لون واحد فقط. لم أدرِ ما معنى تلاشي الألوان تلك، ولكنه حتمًا ليس بالأمر الجيّد، كانت تلك الرحلة بالسيّارة للجامعة مؤلمة جدًّا. 

        لم أتوقّع أن تكون الجامعة أرض الأحلام بالنسبة لي، لم أرى ألوانًا مختلفة من قبل مثل التي رأيتها هناك! والأجمل من ذلك هم أشباه صديقتي، الكثير من الفتيات كانت تحفهنّ ألوان زاهية متعددة، أشغلتني ألوانهم عن النظر لصديقتي، حتى جلست على كرسي التقديم وأمسكت بأوراق التقديم على تخصص الهندسة المعمارية بالرغم من اشتهائها لفنون الأزياء. نظرت إليها فوجدت ألوانها تتلاشى أكثر حتى بالكاد أصبح بها تلوّنا، ونظرت حولها لمختلف الطالبات الملونات؛ فوجدت منهن من توقّع على تخصصها فتزداد ألوانها زهوًّا، ومن مثل صديقتي توقّع وألوانها تتلاشى، حتى تسلّم الورقة ولم يبقى منها إلا لونًا واحدًا.

لم أستطع الصمود، فسرقت القلم من يد صديقتي بتهوّر، صرخت ووقفت ونعتتني بالمجنونة، لكنني لم أكترث. أمسكتها من أكتافها ووجهتها إليّ، عينيّ بعينيها وصوتي واثق متيقّن

"لن أسمح لألوانك بالتلاشي!"

"ماذا تقصدين؟"

"أقصد شغفك! لن أسمح لشغفك أن يختفي! ألا تذكرين معلمّة التاريخ؟ ألا تذكرين كيف شبهتك بها؟! أليس هذا ما تريدين؟ أن تحققين حلم طفولتك؟!"

"ولكن والديّ..."

"لا تلومي والديك يا صديقتي! أنت من لم تحارب من أجل أحلامها! الحلم لا يأتيك هادئًا مسالمًا، ليس الحلم حلمًا إن لم يوقظك من النوم، إن لم ينسيك الطعام، إن لم يشغلك عن العالم! يا صديقتي لم أرَ في عيني شخص آخر حبٌّ للأزياء مثلك، ولا شغف للتفاصيل مثلك! صديقتي ألوانك بدأت تتلاشى، أرجوكِ حاربي من أجل حلمك!"

وإذا بي أشعر بطاقة تخرج من جلدي، فنظرت ليدي ووجدت لونها الأزرق بدأ يمتزج بالأحمر والأصفر والبرتقالي! وشعرت بشرارة من السعادة تمتد من خلايا جلدي لأعماق شرايين قلبي! فصرخت وملامح وجهي تتشقق من السعادة

"عرفت ماذا أريد أن أكون! وجدت شغفي! أريد أن أساعد الآخرين لتحقيق أحلامهم، وسأبدأ بك أنتِ!"

تعليقات